صانع الوهم
قراءة في قصيدة
"حين امشي تساقط جراحي"
للشاعر سهيل نجم
عبدالستارعبداللطيف الاسدي*
ان من يحمل شارة قايين، لا يمشي في الارض مزهوا بعلوٍّ كعبه، معتدا بمديد قامته، عاملا سيفه في رؤوس حان قطافها، فحسب، بل قد يحكم الارض كلها، و يسود العباد كاحد السلاطين، معلناً نفسه الفرعون الاوحد، يأمر فيجاب، يَنهى فيطاع ، يفتح الف باب و باب، كلها تودي الى الخروج من هذا العالم، الى القبور، فالقاتل يلغي الامل، يلغي الحياة، يلغي كل شيء، يدمر كل شيء، و قــــــد قيل: ان من يجهز، على انسانٍ واحدٍ، يسمى (قاتلٌ)... هكذا، (قاتلٌ) مجردٌ من الانواط و النياشين، و المسميات و الالقاب، اما من يقتل مليونا، فيتوَّج زعيم او فاتح او - ربما- امبراطور، و لكن من شاءت مشيئته، ابادة البشر، بضغطة زرٍ، او بالسيطرة عن بعد، فهو الهٌ ... الهٌ ، لا تصدح له الابواق احتفاءً، بمقدمه... وهو الهٌ، لا يركن للسكون او الجلوس في محرابه الدموي، ينتظر ان تأتيه القرابين /ضحاياه، ليجز الرؤوس و يجدع الانوف و يقطع الاذان ، او يكتفي، بالانزواء في ركن، بعيد عن عيون المارة، في احد القصور، يدخن الشيشة، و صورته، معلقة على الجدار، يرمق تمثاله الضخم، الذي يلوح للغادين و الرائحين، وسط المدينة، قرب النهر...لا... انه يمشي مع الماشيين، في الطرقات، و يتجول مع الجائليين، في الاسواق، و يرتاد المقاصف و مطاعم الوجبات السريعة و مواقف الحافلات، المتجهة الى هناك، ويصلي، في الجوامع و دور العبادة، مع المحتشدين، القائمين الركع السجود، بل حتى انه يقدم النذور لمريم العذراء، و يحضر القداس في كنيسة القيامة، ببغداد، وقد تراه، ينتظر مع المنتظرين، فرصة عمل وسط "العمال، الكسبة" الفقراء، الباحثين عن قوت يومهم، او ربما هو الذي "يبشِّرهم" بالعمل فيذهبون معه لانه هو "المقاول"- نسخة معاصرة من قايين هذا الزمان كما يقدمه لنا الشاعر سهيل نجم
في قصيدته (حين امشي تساقط جراحي)، المنشورة في تكست، السنة الثانية/ حزيران، العدد 14 ،ص 12.** :
قال هذه فأسي وانا المقاول فتعالوا معي...
...
و جلس، بعد الافطار، ليشرب الشاي،
في هذه الساحة او تلك، في هذه البلدة، القريبة او القصية، هنا او هناك، في الشمال او الجنوب، الشرق او الغرب... في معبد الموت الكبير...العراق- معبد الهٍ يعلن عن صورته انه، تارة، "الجنون": يبحث، هو الاخر، عن "فرصة لخيال وحشي/ كي يروي حكايته عن الافتراس"- الاله الجنون، قلبا و قالبا، هكذا اسمه، او تنويعة من تنويعاته- فهو(يانوس) Janus: ذوألف الف وجه، تارة اخرى! لربما يكون "جلادا، شيطانا، وحشا، احد الغرباء او الغزاة، حواري من حواريّ فن الذبح، صاحب قصيدة مأجورة، كاتب مقالة بفلس، يركب دبابة او عربة معبأة بالموت، و يزرع الدم"، هكذا شخصية قايين- ذي الاقنعة المتعددة، "القاتل/المقاول/ المأجور/ الاله المسعور"، الوافد الغريب، كما تلتقطها القصيدة:
مرت العربات المعبأة بالعدم
مر الجلادون الجدد
زرعوا هنا زهرة الدم
مر الحقد الطبقي
و حواريو القصائد المأجورة،
و كتاب المقالة بفلس،
مرت الاحذية الثقيلة
والدبابات،
مروا و مروا...
هو "اله المحو" الذي يحمل شارات قايين و نذره و بحة صوته حين يصرخ بالعراقيين:
ايها العراقيون، لقد اسميتكم قتلى!
فأجلسوا باسمين
بينما تتطايرون
ضحايا لاله المحو
ان الشاعر يرسم شخصية القاتل/الاله، بهذا الافق البانورامي، و الاسطوري و بهذه الايحاءات، الجمة، (ترد للذهن هنا شخصيتي تيامات في قصة الخليقة البابلية و عشتار القاتلة و شخصيات اخرى)، اقول- ان افقه، يضيق، و ينكمش، بعد حين، ليقف، عند وجه واحد، من وجوه قايين/الشيطان/ القاتل/الاله، ذلك هو ( صاحب العربة المعبأة بالعدم) و بالتالي لم يستكمل ما بدأه ولم يستثمره...او انه نسى بقية الوجوه!
تعتمد القصيدة، في بنيتها على واقعة حقيقية، في الكاظمية او لعلها مدينة الصدر او بابل، او في بقعة ما في معبد الموت الكبير ، "لعمل ارهابي"، (هكذا درج على تسميته، في الاعلام!) راح ضحيته، ، عمال كانوا ينتظرون، وصول متعهدهم لينقلهم، الى موقع العمل، و يأتي المقاول المنتظر، و لكنه الموت اذ اتى!
حين استدار
كان ذيله يقدح شررا على الحصى!
تعتبر القصيدة، قصيدة نثر، و بالتالي تخللتها عناصر سردية واضحة المعالم، متمثلة بالراوي و الشخوص و الحدث الروائي الواحد، الذي جاء، للمتلقي، عبر زوايا نظر متعددة Points of View، تمثل الراوي نفسه و الشخوص/الشهود- هم ثلاثة و رابعهم شاهد غائب- لم يشهد الموت هنا، بل في مكان آخر هو مكاننا، و في زمان اخر، هو زماننا- وكل هؤلاء يجمعهم جامع متين: انهم تمرغوا في خضم الحدث: هم الاموات انفسهم - الضحايا الذين خبروا الموت، عن تجربة، و مروا، عبر بوابته الى العالم الاخر؛ وجهات نظر، من ناحية، تسهب في كشف لحظة الموت و ماهيته و فجأة وقوعه وألمه و مأساويته ، ولحظة الاندهاش به ورعب الصعقة منه ثم الانفجار و الرعد،و البارود و الصبح الاسود، و البرق والعماء، و التوهج و التشظي و تطاير الاشلاء و تساقط الجراح حتى ( صارت الارواح تبحث عن شظاياها) و ( حتى اكتست الارصفة باللهب لعلها الآخرة و بدء الخليقة) كما تقول القصيدة ، و من ناحية أخرى، تسهب وجهات النظرهذه، في تحديد معالم شخصية القاتل المرعب و تنويعاته و أقنعته التي يتلبس بها، مما اتاح للشاعر، ليس يدلي بآرائه حول قضية مصيرية، تهمنا كلنا، نحن المعذبين في الارض، فحسب، بل ايضا، توظيفه صور شعرية، وافرة، من حقول دلالية مختلفة، فهناك، على سبيل المثال، صورالافراح-(العرس، افراح، باسمين، اُغنياتهم، نضحك)، و صور الاتراح- (يصرخ، العويل، يبكي، يرتعش)، و صور معرفية- (رواية، حكاية، يروي، بحر كلمات، القصائد، المقالة)، و صور جسدية- (أنامل، روحي، جسدي، عيناي، قلبي، رأسي، رئتيه، عورته)، وصور حيوانية- (قطة ثكلى، جواد الفناء، ذيلي)، و صور طعام- (تناول، فطور، يأكل، عشاء، يشرب الشاي، يلوكنا)،وصور حربية- (شظايا، توهج، اللهب، الدبابات، يقدح، الشرر، شارة نصر، صاعقة)، صور قوطية Gothic مخيفة (يد مبتورة، ذبح، افتراس، خيال وحشي، و شيطان و فك من حديد و ضحايا و قطرات دم، الجلادون)، و صور حضرية- (عمال، مدينة، جدار، مدينة متوثبة، شوارع، مقاول، الارصفة، العربات، الحصى، الإسفلت، الساحة)، و دينية (اله، انبياء، الرب، الاخرة، الخليقة، المئذنة) و تناصات أسطورية (تيامات/الربة الهمجية) وأخرى دينية ("حين امشي تساقط جراحي"-من سورة مريم:"و هزي أليك بجذع النخلة تُساقط عليكِ رُطبا جَنيا"/الاية 25 و "قال هذه فأسي"- من قصة موسى القرآنية أيضا- " قال هي عصاي أتوكأُ عليها"، سورة طه/ الاية 18 و فيهما يعتمد الشاعر ما يسمي التوازي Parallelism أي التطابق التركيبي في بناء الجمل الشعرية مع مثيلاتها القرآنية ) مثلما يبني على معتقد "العشاء الرباني"the Communion و "طقس التناول" the Mass صورة شعرية تتمحور حول المسيح الذي قُدِّم بصفته إلها طوطميا او انتي-كرايست Anti-Chris ياكل، على مأدبة عشائه، مُريديّه الذين حضروا ليتناولوا إلههم فصاروا هم المأكولين.... و لو امعنا القراءة قليلا في في العنوان، نجد ان القصيدة في هذا التناص القرآني، خسرت اكثر مما ربحت ، فبدل ان يرتفع بها الى مستوى "الجليل"، ( the Sublime) ، جاء برد فعل معاكس، بسبب سوء اختيار الصورة القرانية ، فهي- حتى في جانبها الشكلي- تحولت في القصيدة من (الجمال) الى (الفظاعة) و (الكراهة) فما بالك اذا كانت تعبر عن اعجازاِلـهي يشمل الطبيعتين الفيزيائية و البشرية: ان يتساقط الرطب في غير أوانه او موسمه- في الشتاء القارص، و ان تهز المرأة العليلة بجذع النخلة و هو القوي!... فأي امرٍّ هذا تتعطل لاجله قوانين الزمان، و قوانين الانسان و يتحدث عنها القرآن... انه الاعجاز و لا عجب، لانه هو الله رب العالمين و لانها مريم البتول و لانه عيسى الرسول... ولكن ماذا عن القصيدة؟ ايُّ اعجازٍّ في تساقط الاشلاء واثخان الجراح و ضياع الارواح؟ ثم لِمَ اِسباغ هذه الصفة- الاعجاز- على عمل فظيع، و هو اِسباغ لاشعوري، غير مقصود، ولكنه متضمن Implicit في الصورة و يُستحضر معها، شئنا ام ابيّنا ؟اقول لماذا يتحول (الجميل) او (الباهر) او (الخارق) الى (قبيح) او (مريع) او (شائه)، اما كان من اليسر الاستعانة بصور او تناصات صورية اخرى فيها، من العنف و الروع و الدم، فيها من الاشلاء و الجراح، من حيث الاصل، والسياق، اضافة الى توفرها على شحنات تفجيرية من العاطفة الحارة التي لا تبرد في قلوب المؤمنين، مع مرور الايام، ناهيك- انها تخلق التعاطف معها، ولو استعان الشاعر بها، لارتفعت الصورة في العنوان الى مستوى (الجليل)، ماذا لو ُضمّنت جراحات الطف، على سبيل المثال، لا الحصر، ألم يُقطًّع الجسدُ الطاهر الى مئات الاشلاء، أ لم تَطأ صدرَه عشرات الخيول، ألم تُحّز الرؤوس و الاصابع وتُبتر الايدي و الكفوف، ألم يُذبح الأطفال الرضع، ألم تحرق فتيات يافعات حرقا، أَما اِعتراهم الخوف او الوجل اوالاندهاش ، ثم ماذا لو (ركّب الشاعر او ولّف) من الواقعة الاليمة صورا، من مقتل الحسين (ع)، صورة و من مقتل اخيه العباس (ع)، صورة او من مقاتل الشهداء الكرام (ع) من صحبه، صورة، اذن، ما كان لقصيدته، ان تُقرأ الاّ و ُذرِفت الدموع سخية، على ضحايا المفخخات، و هذا لعمري مبتغى كل شاعر ان يرى نتاجه ُمؤثِّرا و الحدث جلل و الحزن عظيم و اِنّا لفقد الاحبة لمحزونين.
ان القصيدة، كتبت بلسان احد هؤلاء الموتى: اي ان الشاعر يتقمص Empathy دور المائت و الاموات الاخرين، لحظة الانفجارالمريع، و يختار راويا، كما يختار شهودا للحدث- شهودا عيانا، اربعة و شاهدا غائبا، واحدا - و هذا- "الشاهد الغائب"- فيه، على مستوى الصياغة اللغوية، "تناقض ظاهري" Paradox، و "ارداف خلفي" Oxymoron وهو تقنية بلاغية من الروتاريكا اليونانية، له اهميته كما َسنُبيّن لاحقا و ان هؤلاء الشهود لا يتحاورون مع بعضهم بعضا، فالحوار مقطوع- ربما لهول الفاجعة و رعب الصعقة، غابت الكلمات و انعقدت الالسن – الم يقل الشاعر ان ذلك يشبه يوم (الآخرة او يوم النشور) بل لعله- في وصف آخر- (يوم بدء الخليقة)! وهذا امر، يحسب للقصيدة و لدرجة التقمص التي وجد الشاعر نفسه فيها، وبالتالي لا نسمي ما نسمعه حوارا الّا تجاوزا، فالمسموع اصوات شعرية، منفصلة، منقطعة، تحكي وجهات نظر لحدث واحد، اما الحوار ، كما معروف، فيتطلب، المشاركة و التفاعل و التواصل و الخضوع لمبدأ (الملاسنة) و هو ما يعرف ب (ريبارتيه Repartee او (لعبة هات و خذ Give-and-Take )، هذا من ناحية، و من ناحية اخرى، تصوٍّر القصيدة، عالما اخرويا Eschatological (مع بعض التحفظ في اطلاق هذا المصطلح)- عالم ما بعد الموت ، و التحفظ متأتٍ من ان هؤلاء الاموات/الضحايا، لا يشكون عذابات جهنم، و لا يفصحون عما يعانون من عذاب السعير، او قلق الانتظار في المطهر او البرزخ كما نسمع، مثلا، the Ghost شبح الملك الراحل هاملت في المسرحية الشعرية المعروفة Hamlet ، عند لقاءه الاول مع الامير- ابن الملك- و هو يتشكى عذابات آثامه مصورا لنا اهوالا يقشعر لها البدن، اما في القصيدة، فالاموات يشكون من لحظةٍ بات ايُّ منهم يمشي و جراحه تتساقط و امعاءه و كبده يتثلمان، و بالتالي فلا افصاح عن آلام الجحيم، لان الهدف، هنا، من بين أمور أخرى، إظهار موت الفجأة القسري- لحظة العبور ، لحظة التطاير، الغاية هي فضح الواقعة، ذاتها- الحدث الإرهابي البشع و تسليط الضوء عليه... و لهذا، ايضا، لا وجود لرحلة، في القصيدة ، من عالم الاحياء ، يقوم بها الراوي، ومرافقوه، مثلا، الى العالم الاسفل او عالم الاموات، كما في رحلة دانته ومرافقه- فرجيل، في الكوميديا الالهية، لو شئنا المقارنة، لسرعة الحدث الصاعق هنا، بينما الرحلة تتطلب الاستعداد و التمهل و التريث و النزول عند هذه المحطة او تلك، و ليس للقصيدة اي شأن في ذلك! و هنا يكمن ذكاء البناء.
استفاد الشاعر من اسلوب تنكير او تعمية الراوي و الشهود، فجعل شخوصه، غير مسماة ( Unnamed )، ثم لجأ إلى ترقيمها: فهناك شاهد (1) و شاهد (2) و شاهد (3) و آخر لا نعرفه، مشترك في اللعبة، وهو شاهد عيان رقم (4) و لاتمنحه القصيدة رقماً، لانه الراوي المجهول الذي، نقل الينا الحدث، بلسانه، نقلا عن اخرين، كلا حسب فجيعته بالموت! ثم اخيرا، شاهد غائب! ومما لا شك فيه، ان التنكير يفيد التعميم، بمعنى اننا- العراقيون- في هذه البقعة المعذبة، كلنا، شئنا ام ابينا، آجلا ام عاجلا، موتى/ضحايا، فعل ارهابي، وان لم تأزف لحظات تفجيرنا بعد، ولكن الى حين- فمن يدري ما يخبىء القدر لكل منا....ان هذا التعميم في الشخوص يخلق نوعا من التقابل ( Juxtaposition ) الموازي للفظة (العراقيون)- في مطلع القصيدة، في نداء اله المحو اليهم، و هي لفظة معممة، فمثلما توحد كل العراقيين بمسمى واحد- وهم احياء- فالاموات/الضحايا و الشهداء الشهود و الشهداء الغائبون، يُعتبرون، كلهم شاهد واحد و ضحية واحدة؛ توحدوا لحظة تطاير اشلائهم، و لا فرق او اختلاف، بين من وقع، الان، او من وقع سابقا، او سيقع لاحقا، سواء هنا ، في لحظتنا هذه، او في مكان و زمان اخرين، لقمة سائغة، لاله المحو، الذي من شانه ان يأكلنا جميعا و لا يبقي لنا من باقية - من هنا جاء استخدام (الشاهد الغائب) في القصيدة، لاضفاء معنى الوحدة و التوحد و بالتالي نبذ الفرقة والفتنة الطائفية و الاحتراب المذهبي و التهجير المناطقي ...الخ وهذا معنى رائع، كما يبدو ، في القصيدة و من هنا جاء صوت التحدي و الامل ببدايات جديدة و موت الموت نفسه:
ايها القديم كالضغينة، ايها الواهم بالانتصار دوما
ايها الموت،
ستكون دائما ثمة بدايات جديدة!
و بصوت التحدي هذا و توجيه الخطاب المباشر للموت، يتكشف لنا بعدٌ اخرٌ في القصيدة، الا و هو وقوعها تحت تاثير الشعر الانكليزي في اربع مواضع، استفاد منها الشاعر- أولها: نقل تجربة الميتافيزيقي جون دون (1572-1631 م)-John Donne في قصيدته المشهورة: "أيها الموت، لا تكن مغرورا....اذ لسوف يأتي يوم لا موت فيه؛ ايها الموت: انك ستموت!" و فيها يحتقر الشاعر الانكليزي الموت بعد ان يعدد تنويعاته فَـلِمَ الخشية منه و هو الحقير...و من هذه التنويعات انه مثل "النوم والركون للراحة بعد الجهد و العناء، و انه كالعبد المطيع و الخانع الذليل للقدر و للحظ و للملوك- اولي الامر وللقتلة و لليائسين من الحياة و أنه ضجيع السموم، و الحروب و الاوبئة، يكون حيث تكون، و انه قرين الحشيش و المخدرات و رقى السحر! " و سارت القصيدة- موضع الدراسة- على ذات المنوال... و ثانيا: تاثير الميتافيزيقي آندرو مارفيل (1621-1678) ، Andrew Marvellفي وصفه للزمان Time، في قصيدته- "الى معشوقته الخجول"- To His Coy Mistress حيث يصف الزمان ك"الفارس واللجام بيده، بعربته اليونانية الملوكية المجنحة winged chariot، ذات السيوف بمحاور عجلاتها، نسمعه وراءنا، و هو يخبُّ الخطى مسرعا"- و لكن الشاعر سهيل نجم، استعاض عن "زمان مارفيل" بالموت، مفردة بمفردة، كما يتضح، و كذلك فعل مع سوناتا رقم 116 لشكسبير (1564-1616) ، حيث ابدل "الزمان" بالموت ايضا- وفيها يصور شكسبير الزمان ك"فلاّح منكّب على حصاد كل ما ياتي ضمن نطاق منجله الطويل المقوس" وهذا ثالثا اما الموضع الرابع، فقد وصف الشاعر العراقي، الموت/ اَله المحو- اِله الجنون ب"القديم"، و هذا مستمد من مناجاة هاملت (الفصل الاول، المشهد الخامس، البيت 172) و هو يصف الجنون، فبعد ان يعقد هاملت العزم على اكتشاف قاتل ابيه بتظاهره فقدان عقله كآلية يلتجأ اليها، و يتقنع وراءها، و ذريعة تجعله في حل من كل التزام او تصرف غير لائق و هو الامير و كي لا يثير عيون الرقباء- نسمعه في السولو Solo خاصته يحدث نفسه: "سأجعل النزق القديم رداءً أرتديه!" To put an antique disposition on و النزق هو الجنون- بحسب المسرحية، و لهذا لا غرابة، ان وحَّــدت القصيدة بين "الموت" و "الجنون" منذ البداية، من البيت الثاني:
هذه فرصة للجنون ان يعلن صورته وهي فرصة الخيال الوحشي
.....
حين يصرخ
....
.......اِله المحو
و حسمته لصالحها كي يتسنى للشاعر الاستعانة بتجارب الاخرين التي موّه عليها و عتّم و لو الى حين!
قلنا ان القصيدة تتضمن معنى رائعا في نبذ الفرقة والفتنة الطائفية و الاحتراب المذهبي و التهجير المناطقي... الخ و لكن هذا المعنى، يظل يمكث في ظاهر القصيدة و لا يتغلغل في لحمتها... لانه ورد مثلوما بل و منحازا ايضا- كما سيتضح من خلال هذه القراءة..... و ما يعد ثلمة فيه، ان الراوي لم يستخدم تعبيرنا الانف (الفتنة الطائفية او الاحتراب المذهبي) بل شاء ان يقول: "الحقد الطبقي"! و هذه وجهة نظر غريبة، و مبتكرة لظاهرة حيّرت المحللين السياسيين! و لا نتفق معه- لامر بسيط و بدهي: ان ما يحدث على ارض الواقع و ما يقوم به "اله المحو والابادة"- بحسب القصيدة- ليس له من علاقة بالصراع او الحقد الطبقي و لا يمثل صراع البروليتاريا من اجل حصولها على حقوقها المغتصبة و الاّ فان الراوي من حيث، لا يشعر، يسبغ الشرعية على اعمال هو يدينها . ان الراوي يقلب المفاهيم، راسا على عقب، فالقاتل/الاله، غدا بروليتاريا لانه يمارس حقده، لانه يطالب بحقٍ ، و مِن مَن؟ مِن الابرياء/الضحايا/الغاصبين!، اعتقد ان هناك تسرع في حشر ما يدلل على ازدواجية الرؤية لديه او لدى الشاعر او لعلها الرؤية الحقيقية و قد طفت او نضحت للسطح او دونه في العمق!! و هناك طفو او تناضح فكري Exosmosis مثيل و خطير آخر ، ورد في اشارته الى "ثمة من يشتري رضا اثم بذبح الانبياء!"... طبعا، من حق القصيدة ان تؤسس قاموسها الخاص بها... و من حق القارئ اخضاع هذا القاموس للتحليل و التساؤل... ترى ما المقصود ب(الانبياء) هنا؟ ان القصيدة- بالتاكيد- لا تشير الى المعنى الحرفي لكلمة (انبياء)، ليس هم (الانبياء) الذين ورد ذكرهم بالقران، و لا الانبياء الذين وردت قصصهم بالتوراة او الزبور او الانجيل، الذين ما حوكموا و ما ذبحوا وما أعدموا ولا صُلٍّبوا..أذن من هم الذين يُلمَّح لهم، في القصيدة؟ هل هم انبياء الكتاب الاخضر ام تراهم انبياء المكتب التنفيذي للشغيلة العالمية؟ أذن، ان القصيدة تتضمن ثيمات اخرى مبطنة غير تلك الثيمة الظاهرية عن ادانة التفجيرات الى ادانة الخفير و الوزير و التغيير! وهي ثيمات مستترة او مخفية بعناية - وان هذا التستّر او التمترس او التخفي، وراء الواضح او المعلن او المسلم به، يكشف احدى آليات الخطاب الذكية، و التي استطيع مقارنتها، بآلية اخرى: آلية تكشف قرب الشاعر من الساحر: ففي الوقت الذي يلهي هذا (الساحر او البارع في استخدام مهارات يديه ( the adroit magician)، في السيرك، النظارة، طوال الوقت، بما في يده اليسرى، مثلا، يكون قد دبّر امر ما، في يديه اليمنى، يفعله بسرعة ارتداد الطرف كأنه السحر! و هو المهم في اللعبة و زبدتها و عسلها كلها! و الشاعر ساحر فكلاهما صانع وهم! و لعل من الوهم الذي ارادت القصيدة تمريره هو توظيفها ما هو (آني) لخدمة ما هو (تاريخي) بمعنى جرى استثمار (الآني) لخدمة (التاريخي) فقد استغل الشاعر (الحدث المبني على مجئ المقاول/الموت) ليسجل رفضه و لعنته على جلاديّ هذا الزمان- اصحاب العقب الفولاذية و الاحذية الثقيلة و الدبابات و الغزاة و اصحاب شارات النصر الزائف، المكشوفة عوراتهم...الخ
ثمة من يعلق اليد المبتورة شارة نصر
و يستر عورته بالقتل!
ولكن (التاريخي) عنده حبله قصير، لم يمتد ليلتف حول اعناق جلادين آخرين، وجوههم مثل وجوهنا، و لغتهم هي لغتنا و نحن هم انفسنا و ألفناهم كنا وكانوا ألفونا، و لكن زرعونا في الارض، دما و مقابرا، زرافات و وفرادى- ان (التاريخي) لم يَطل يوم كان كل (العراقيين) مشاريع لهذا المقاول نفسه بمسميات اخرى! لقد تجمد التاريخي عند الشاعر في لحظة واحدة و لم يتجاوزها و لو شاء لجعل (شاهد غائب رقم 2) من اجل ان يخلق تقابلا Juxtaposition عادلا بين الشهداء/ الشهداء في اماكن تائهات و ازمان غائبات، ، قبل انهيار الجدار ، بخمسمائة عام، بمائة عام، بخمسين او اربعين عاما، شهداء اكتساحات المغول و التتر و الجنرال مود وشهداء الشعيبة و الفاو وام قصر و الحبانية و الكوت و حلبجة و كرديمند و بين كل الشهداء/ الشهود الذين مضوا بعد انهيار الجدار، لكن الراوي او الشاعر سجل انحيازا لقضية اخرى هي الضد من ثيمة القصيدة الظاهرية و فقدت بذلك بعداَ انسانيا او ان بعدها الانساني لم يكتمل ما دام ان قبرها الجماعي لم يتسع لكل ضحايا معبد الموت الكبير فلم تندبهم و لم تعلن الحداد او تلبس السواد عليهم بل جعلتهم نسيّا منسيا!
*أكاديمي وناقد عراقي
- المنشورة على الموقع الالكتروني لتكست جريدة ثقافية شهرية مستقلة، على الرابط:
http://textbasrah30.blogspot.com/2011/07/14_8543.html
العــــــودة للصفحـــة الام - تكست جريدة شهرية ثقافية مستقلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق