الصفحـــــــة الرئيـســـــــــة

الاثنين، 24 أكتوبر 2011

تكست - العددالمزدوج 15-16 / جدلية الموجود و المتلقي


جدلية الموجود و المتلقي

*احمد خالص الشعلان

وجود طرف ثان شئ لم نألفه بعد. فما السبب؟ وقد لا يكون السبب واحداً، بل أسباب تتعدد وتتنوع، و لكنها جميعها تصب في مجرى اغفال الطرف الثاني، او تجاهله، أو تغييبه، او مصادرته ارضاء للانكفاء حول الذات، أو حتى إلى تدميره كلياً في اللاوعي أن تطلب الأمر، و كأن استبعاد ألآخر متأصل فينا حتى حين نكتب، على الرغم من تشدقنا ليل نهار بأن الكتابة هي الباب الذي ندخل منه الى برية الحرية و الى موضوعية الفكر. والمهم هنا، هو إدراك حقيقة أن نفي ألآخر كان دوما هو المعطف المظلم الذي يحول النشاط المعرفي الى عدم، لا يقوى على التطلع حتى الى نسمة حياة. و أزعم هنا ان هذا هو أيضا ما يسبب عقم كل ثقافة، أو دين، أو مسعى عقلي يريد له صاحبه ان يتبوأ منزلة الظاهرة العقلانية. فالثنائية، و لا أريد ان أقول أنها تكاد أن تكون، بل أنها حقاً، القانون المطلق للعقل في سعيه للوصول الى الحقيقة. أوليس العقل هو مبدع ثنائيات من شاكلة: الله/ الشيطان، الخير/ الشر، الجميل/ القبيح ... الخ؟ فلم إذن يفترض أغلبنا حين يكتب أنه يكتب لنفسه؟!

و لنلاحظ أنه قبل أن ترتقي عمليات العقل وآلياته الى مستوى التجريد الذي بلغته حتى الان، متمثلة بقدرة العقل على خلق "الحاجة/الطرف الاول" و "نقيضها/الطرف الثاني". كان العقل في مراحل الوعي المبكرة جداً، في الزمن السحيق بعداً في تاريخ نشأة الانسان جنساً مستقلاً عن جنس الحيوان، أقول كان العقل يرى في الطبيعة، وكل ما فيها "نقيضه/الطرف الثاني". وكلما كانت حاجة العقل ترتقي في مراحل الوعي، كان يرتقي معها، تلقائيا، "الطرف الثاني" الافتراضي, وكأن حركتهما لم تكن تجري إلا سويةً، ولكن أحدهما عكس الآخر، ليكونا لب الوجود الواعي. ولم يرتقِ عقل الانسان الى مستوى التجريد المحض، متمثلا في قدرته على خلق الصورة ونقيضها، إلا حين أدرك لا شعورياً في لحظة دراماتيكية من لحظات تاريخه المعقد المتعرج الطويل، ان الطبيعة، التي كان يعدها حتى ذلك الحين "نقيضه/الطرف الثاني"، هي ذاتها أيضا تتشكل في حركتها الموضوعية بشكل طرف أول هو في جوهره "نقيض وطرف ثاني هو أيضا في جوهره "نقيض"، و هما لا يكفان عن حركة سرمدية، هي لولب تحولات الطبيعة. ومنذ ذلك الوقت ابتدأت رحلة ميلودراما الإنسان في لعبته ألأزلية مع عقله. يشعر بالسعادة حين يدرك أن له قدرة فائقة على خلق آلاف التصورات والأفكار. ولكنه، وبمجرد أن يكتشف إن عقله ذاته قادر على خلق نقيض لتلك الآلاف من التصورات والأفكار، سرعان ما يتلاشى حبوره، منكفئاً على ذاته، يلوم عقله على ما يسببه له من جحيم القلق الذي لا يطاق. ولعله، لكي يجرد نفسه من هذا الجحيم الذي يسببه له عقله، راحت تتبلور في عقله لا شعورياً فكرة الواحدية، واقصد هنا "الفكرة الواحدة القائمة بذاتها التي لا تحتاج الى نقيض كي توجد".

فهل كان ذلك متاحاً للعقل؟

ولنلاحظ إن أية ديانة بدائية تكاد لا تخلو من الثنائية، و لكنها لا تخلو أيضا من رديف طموح إلى الواحدية. و ذلك، بأن استطاعت الديانات المتقدمة التوحيدية أن تلوي عنق الحقيقة العقلية الموضوعية و تقلل من أهميتها، و ذلك بإضفاء صفات أقل أهمية أو جاذبية، أو بأن تضفي على، "النقيض/ الطرف الثاني" صفات تعد دونية على وفق قيمها التفوقية المتخيلة، و كأنه تابع للطرف ألأول، مثلما يحصل في ثنائية "الله/ الشيطان"!

ولنلاحظ أيضا إن الأديان التوحيدية، عند ظهورها، ودون استثناء، لم تستطع هي نفسها، وعلى الرغم من كون راية الايمان عندها لا تقوم إلا على سارية التوحيد والواحديَة، المبنية على أساس وجود "اله" واحد "لا شريك" له، أقول هي نفسها لم تخل مطلقاً من معادلة الثنائية. وأعني بذلك، أنه صحيح أنها قالت جميعها باله واحد "لا شريك له إلا أنها لم تقل قط باله واحد "لا نقيض" له. و اعني هنا "النقيض/ الشيطان/ الطرف الثاني"، الذي لا تكتمل فكرة ألالوهة منطقيا إلا بوجوده، وكأننا بهم جعلوا الله، هو ذاته، يدرك بقدرته المعرفية الكلية أن وجود الطرف "الثاني/ النقيض" ليس عرضياً، وإنما ضروري كي تتضح فكرة الخلق والربوبية للبشر. وهنا يكمن لب المسألة.

فما بال البشر لا يفقهون؟!

و بذا، نرى أن "الثنائية" تفرض نفسها، شئنا أم أبينا، في النشاط المعرفي موضوعيا، ايجاداً أو تلقياً. وكأن وجود "النقيض/الطرف الثاني" وجود لازب، وليس مؤقتاً، أو مرهوناً بمستوى معين من مستويات النشاط المعرفي. أو بكلمات أخرى، أزعم أن وجوده يعد قانوناً مطلقاً، فبدونه لا يمكن للنشاط المعرفي أن يحقق وجوداً من نوع الوجود الحقيقة القيمية.

وتتنوع مستويات " الثنائية "، هذه التي أتحدث عنها، بتنوع النشاط المعرفي، متخذة في الغالب حركة دائرية افتراضية، مثلما هو موضح في الشكل:

وقد يكون بالإمكان عموم افتراض وجود ثلاثة انواع من هذه الثنائية:

الأولى تكمن في صلب العقل، مبدع الفكرة، و بالإمكان تسميتها" الثنائية الذاتية". وهذه الثنائية تتميز بتغذية راجعة ذاتية، يقوم بها "الطرف الثاني/النقيض" باتجاه "الطرف ألأول/نقيضه اللازب":

و الثنائية الثانية هي ثنائية موجودة خارج العقل، بالامكان تسميتها بـ"الثنائية الموضوعية"، وتتجلى بوجود نقيضين في العالم الخارجي يدركهما عقل إلإنسان، و لا يتوقف وجودها عليه. ولا تخلو هي أيضا من عنصر التغذية الراجعة:

ويقوم العقل بادراك هذه "الثنائية الموضوعية" ، فينشأ نتيجة هذه التجربة ألإدراكية للعالم الموضوعي النوع الثالث من هذه "الثنائية" الافتراضية، و طرفيها العقل والعالم الموضوعي بما فيه من اشياء وعقول، بالإمكان تسميتها بـ "الثنائية المتداخلة"، و هي على الرغم من كونها ثنائية، العقل من جانب، وما يقع خارجه من جانب آخر، إلا انها تحتوي ضمناً على"الثنائية الذاتية" و "الثنائية الموضوعية" كليهما، و بكل مستوياتهما والاشكال التي تتخذانهما.

وتعد هذه " الثنائية "، بالنتيجة، أرقى أنواع النشاط المعرفي، لأنها ذات اشكال ومستويات متعددة. أحد أشكال هذه "الثنائية" هي ثنائية: " الموجد/ الطرف الأول، والمتلقي/ الطرف الثاني"

و تتميز هذه الثنائية ببروز عنصر "التغذية الراجعة"، المذكور آنفا، بروزاً طاغياً، بخاصة في الاعمال الابداعية(الكتابة و الرسم و الموسيقى و ما يوازيها) و البحثية الكتابية دون استثناء. فإعادة قراءة أية قصيدة, أو رواية, أو قصة، أو مشاهدة لمسرحية، أو التفرج على لوحة، أو الاستماع للموسيقى و الغناء، واتساع حجم الجمهور الذي يقبل على أي منها، يعد تغذية راجعة للنقيض/الطرف الاول، يقوم بها نقيضه/الطرف الثاني في سعيه، سواء من خلال حسه النقدي أو التجاوب مع الجمال الكامن فيه، لإملاء مساحات خالية تركها الطرف الأول لاشعوريا في عمله الفني. وكذا هو الحال في الفنون التشكيلية، وكذا هو الحال في الموسيقى، وكذا هو الحال في الكتابة النقدية أو الفلسفية.

ولنلاحظ أن حلقات النشاط المعرفي الارقى هي تلك الحلقات التي تتداخل فيها كل تلك الثنائيات، عدا عن ثنائيات فرعية إضافية تتشكل جميعها تلقائيا، و تتداخل لتصوغ البنية إلإفتراضية للنشاط المعرفي، سواء أكان في الظاهرة الدينية، أو الاجتهاد الفلسفي، أو البديهة العلمية.

لنأخذ مثالا على ذلك من الثنائيات التي تتداخل لتحقق النشاط المعرفي الذي يتوق اليه الرسام. تنشأ في ذهن الرسام في بداية ألأمر "ثنائية ذاتية" بين فكرة الموضوع الذي يريد أن يصوره الرسام ونقيض ذلك الموضوع على التوالي (فكرة الشجرة مثلاً، و معها أية فكرة أخرى لا على التعيين تكون نقيضها؛ أي أنها لا تشبهها في الشكل أو في المضمون لغرض المقارنة اللاشعورية. و يتمثل نشوء الطرف ألأول ببروز فكرة الشجرة في ذهن الرسام، و يتمثل نشوء الطرف النقيض هنا بادراك الرسام أنه يرسم شجرة و ليس شيئاً آخر)، ثم يبدأ توالي الثنائيات بتوجه الرسام بعد ذلك، من طريق استرجاع شكل الشجرة مثلما هي موجودة في العالم الموضوعي، أو بالمعاينة الواقعية لشجرة بعينها. وعند ذاك تبدأ "الثنائية الموضوعية" في التكشف و الانعكاس في ذهن الرسام (صورة الشجرة في العالم الواقعي ونقيضها، الانسان أو اياً من الاشياء التي تحيط بها)، ولا تخلو هذه الثنائية من عنصر التغذية الراجعة في أي من طرفيها. ثم تأتي مرحلة "الثنائية المتداخلة" وهي النوع الثالث، بعد تحقق اللوحة مادياً وظهورها ضمن اطار محدد و فضاء مرسوم، فالرسم هو الفن الذي يتماهى مع المكان. و بهذا التماهي يكون الموجد (الفنان، و هو الطرف ألأول في هذه الجدلية) قد حقق غايته في الخلق. غير أن ما لم يتحقق هنا حتى هذه اللحظة، أزاء ظهور اللوحة، هو ظهور الطرف الثاني، وهو المتلقي. و أزعم هنا أنه اذا لم يحصل و ظهر الطرف الثاني، ستكف الثنائية عن كونها ثنائية، و لا تتعدى كونها أحادية ساكنة. ذلك لأن دائرة الابداع لم تكتمل دورتها بظهور المتلقي. و بذا، لا تعدو اللوحة سوى لطخات لون قد تسعد الفنان بوصفها نوعا من اللعب الممتع، ولكنها لا تعد ابداعاً ، في أي مقياس من المقاييس سوى مقياس الذات، لأنها تفتقر الى الطرف الثاني، نقيضها الذي يبث فيها الحياة. و ظهور الطرف الثانيظ المتلقي هو ما يكشف ايضاً عن عبقرية الرسام، أو تميزه على الاقل. ومن هنا تأتي أهمية عرض الفنان التشكيلي لأعماله في صالات العرض، التي تعد ردود فعل الجمهور عليها تغذية راجعة لها, و دافعا لتطوير عمل الفنان. و أزعم أيضا أن أية لوحة مهما ظن بها راسمها من البراعة لا تعد إبداعا إن لم يرها أحد غير الرسام.

ولا يختلف الامر كثيراً في الموسيقى. إذ يتشكل مشروع التأليف الموسيقى بسلسلة الثنائيات التي ذكرناها ذاتها، ولكن بالخواص التي تتمتع بها حاسة السمع عن الحواس الاخرى. يبتدأ اللحن الموسيقي بثنائية من "جملة لحنية ونقيضها". ثم تجري مطابقتها مع "الثنائية الموضوعية" وأقصد هنا "الصوت ونقيضه" الموجودين في الطبيعة. (ومن المدهش هنا ان نتذكر أن الفيلسوف ديكارت حاول أن يبحث هل أن الأصوات عند ادراكها تطبع في الذهن صورا مثل تلك الصور التي تطبعها المرئيات في ذهن المدرك). ثم تبتدئ بعد ذلك مرحلة "الثنائية المتداخلة" حين تتحقق مجموعة الالحان، وتبقى بانتظار "النقيض/الطرف الثاني/المتلقي"، الذي يحقق للمشروع الموسيقي اكتمال دائرة ابداعه. إذ بدونه ستبقى تلك الالحان مجرد أصوات متنافرة، يغيب عنها ما يوحدها و يناغمها، أو يبث فيها الحياة. وإلا فكيف كان قد تسنى لسمفونية بتهوفن التاسعة أن تكون من الخلود بحيث يختارها الاوربيون نشيداً وطنياً لاوروبا الموحدة؟ أليس ألأوروبيون هم الطرف الثاني الذي وهب لهذه السمفونية جوهر إبداعها؟!

ولا يشذ موضوع الكتابة في الفلسفة، عن احتمال خضوعه لمثل هذه السلسلة من الثنائيات الافتراضية التي تحدثنا عنها. هذا، ان لم تكن علاقة هذه الثنائيات هنا (أقصد في الكتابة الفلسفية) أهم واخطر كثيراً، بسبب الطبيعة الكلية للنشاط المعرفي الفلسفي، واحتوائه ضمناً على كل انواع النشاط المعرفي الإنساني، سواءً أكان عملاً ابداعياً او بحثياً.

يبتدئ مشروع الكتابة الفلسفية في ذهن الكاتب بـ "الثنائية الذاتية" ( مثال ذلك خاطرة الجمال ونقيضها خاطرة القبح). وعندما ينوي الكاتب اسقاط صفة الجمال على شئ يقع خارج ذهنه، يميل، شعوريا او لا شعورياً، الى معاينة الواقع لاستجلاء الخواص التي تعينه على تأسيس معيار للجمال وآخر للقبح، يقع موضوعهما في العالم الواقعي. وآنئذ تبدأ "الثنائية الموضوعية" عملها، لتقوم بدور العارض للخواص الجمالية الافتراضية، التي لربما تصلح أن تكون أسسا للأحكام الجمالية. ومن خلال العمليات الادراكية تجري المطابقة في ذهن الكاتب بين نقيضي "الثنائية الذاتية" اللاماديين ونقيضي "الثنائية الموضوعية" الماديين، لكي تتحقق أو تظهر للوجود فكرة الكاتب عن الشئ الجميل. وهنا يبدأ دور "الثنائية المتداخلة". وتبقى فكرة الشئ الجميل، أو أي موضوع من مواضيع الفلسفة، التي تتحقق على الورق، مجرد مشروع "موجد/ نقيض/الطرف الاول" ينتظر تغذية راجعة من "نقيضه/الطرف الثاني/المتلقي"، لكي تكتمل به دائرة ابداع النص الفلسفي.

· كاتب و مترجم و باحث عراقي

العــــــودة للصفحـــة الام - تكست جريدة شهرية ثقافية مستقلة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق